لسبب ما - ستعرفه - استعدت بذاكرتي مشاهد فيلم Cast Away للممثل المميز (توم هانكس) الذي شاهدتُه منذ عدة أعوام.. وفيه نرى البطل وقد انتقل بتصاريف القدر - بين عشية وضحاها - من قمة المدَنِيَّة الحديثة بكل رفاهيتها (ممثَّلَة في عمله مديرا بإحدى الشركات الأمريكية الكبرى) إلى قمة البدائية (ممثلة في جزيرة معزولة في المحيط)؛ وذلك بعد سقوط طائرته ونجاته منفردا من بين كل طاقمها..!
وعبر سيناريو نادر الكلمات - لكنه رائع التصوير- يُبْرِز الفيلم لنا عدة معانٍ قيِّمة في الحياة..
وعبر سيناريو نادر الكلمات - لكنه رائع التصوير- يُبْرِز الفيلم لنا عدة معانٍ قيِّمة في الحياة..
من أهمها - في رأيي - ألا نركن إلى حال في هذه الدنيا فليس فيها شيء مضمون أبدا، وأن علينا أن نُعِدَّ أنفسنا للأسوء مهما كنا نرفل في رفاهة من العيش..! ومنها - وهو ما أُعنى به في هذه الومضة - أن علاقاتنا بالآخرين هي إحدى ضرورات الحياة، واحتياجنا لعلاقة ما بآخر - مهما كان شكلها - هي من طبائعنا التي جُبلنا عليها كَبَشَر..
وقد أشار الفيلم إلى تلك الحقيقة وصورها بمثال رائع جاء مؤثرا بشدة.. فالبطل تمر عليه أسابيع طوال من الوحدة المملة الخانقة في الجزيرة، وكان من المخلفات التي التقطها من حطام الطائرة - على غرار ما فعل (روبنسون كروزو) مع حطام سفينته - كرةٌ جديدة، وفي لحظة ضيق أمسك الكرة بيد مجروحة ملوثة بالدم ليلقيها بعيدا بكل غضب، فإذا بدمائه ترسم على الكرة - بعشوائية - شكلا أقرب للوجه البشري؛ فبدت للبطل - ولنا - وكأنها شخص له كيان يتطلع إليه بصمت من بعيد..
ومع مرور الوقت -ومع التأكد من عدم وجود بشر على الجزيرة مع اليأس من وصول نجدة إليها- اتخذ البطل تلك الكرة (ذات الوجه البشري) صديقا يشاوره في أموره.. ويبثه همومه.. وفي لحظات الصفاء يريه صورة حبيبته ويحدثه عنها وعن أحلامهما سويا..! ولمزيد من التصديق (ليصدق هو نفسه بدلا من أن يجن) أطلق على (صديقه) اسم (ولسون)..!
وتتوالى الأحداث.. وعند محاولة البطل مغادرة الجزيرة إذا بـ(ولسون) يسقط في الماء وتجرفه الأمواج الهائجة بعيدا عن الطَوْف الذي يركبه البطل.. وهنا نتأكد من مدى قوة (العلاقة) التي نشأت بينهما - بل مدى تصديق البطل لهذه العلاقة - عندما قفز في الماء متحديا الأمواج العاتية ومغامرا بحياته نفسها.. فقط لينقذ (ولسون)..!!
القصة تمثل تجربة ثرية ذات أبعاد إنسانية لأقصى درجة..
يومها -رغم تأثري- ابتسمت بشبه تهكم من تلك العلاقة الغريبة..!
ومرت الأيام...
وأتى عَلَيَّ حين من الدهر عشتُ فيه - وما زلت - وحيدا بعيدا عن أسرتي ووطني.. ورغم وجودي في بلد عربي مسلم وإحاطتي بعدد كبير من الزملاء والرفاق.. إلا أنني في الغربة كثيرُ المعارف شحيحُ الصداقات.. أفتقر فيها لأقرب ثلاثة إلى قلبي.. لذا تجدني - حين يواجهني موقف عصيب أو تجربة قاسية - أعتزل المحيطين بي لأنطلق -لا ألوي على شيء - بسيارتي الجيب .. تلك العزيزة المريحة التي تتحمل قيادتي الصعبة وقسوتي عليها أحيانا.. كما أقضي بداخلها ساعات من التأمل أو الحزن أو الشوق أو الفرح.. وكما اتسعت لأغراضي مهما ثقلت فإنها صارت أيضا تتسع لآمالي وأحزاني وأشواقي.. وكم شَهِدَت تنهداتي وآهاتي ودموعي و-أيضا- ابتساماتي..!
وفي أحد الأيام أضاءت هذه الومضة - أو لحظة التنوير - الجديدة.. فقد فوجئتُ بنفسي وقد استغرقتُ في حديث طويل مع سيارتي.. أشاورها في أموري.. وأبثها همومي.. وأسترجع معها لحظات سعادتي مع زوجتي وبنتَيَّ وآلام الشوق إليهن...!!
هنا قفزت أمامي أحداث الفيلم كلها..وبعد لحظات من الصمت المشدوه.. انفجرت في ضحكات عالية تفوح منها رائحة الجنون.. ثم ربتُّ على (تابلوه) سيارتي الحبيبة، وقلت لها وأنا أنطلق بها: هيا بنا يا صديقتي.... (ولسون)!!!
_________________
تذييل لا بد منه:
هذا الموقف كان منذ أكثر من عام.. لكن ظروفي النفسية الآن صارت - بفضل من الله ونعمة - أفضل بعشرات المرات.. ولهذا أرى أن من أجمل فوائد المدونة التأريخ .. لا أقول للأحداث.. بل لمشاعرنا.. لنرى من حين لآخر كم نتغير.. وكم تغيرنا الأيام.. وكم هي نعم الله علينا بهذا التغيير...!