الهروب الكبير..!
لا.. ليس المقصود هنا اسم ظاهرة من ظواهر الهجرة الجماعية للسردين أو سلاحف البحر التي تملأ ألغازها مراجع علم الحيوان..!! بل هي ظاهرة لم تسجلها المراجع أبدا.. ظاهرة اختصت بها كلية العلوم دون سائر الكليات..!!!!
* * * * *
عرفتَ في المرة السابقة صدمتي الأولى - أنا وأقراني - مع كليتنا الحبيبة.. عندما انفجرت في وجوهنا عاصفة المصطلحات اللاتينية والكلمات الإنجليزية التي لم نسمع بها عبر سني الدراسة كلها...
طبعا مرت الأيام الصعبة كما مرت على عشرات الدفعات من قبلنا.. وكان لزاما علينا أن ندرك حقائق هامة جدا في الحياة، وأن نتعايش مع مُسَلَّمَات لن تستقيم حياتنا - في قسم الحيوان طبعا! - من غيرها..
عرفنا مثلا أن حياتنا القادمة لن تسير إلا وقد تحولت البطن إلى abdomen بدلا من stomach.. والعنكبوت إلى arachnid بدلا من spider.. والانقسام إلى schism بدلا من split..!!!
ولو لم نقتنع بذلك ونتعايش معه.. فلا نلومن إلا أنفسنا.. فالحياة في الخارج لن تتوقف من أجلنا ولن يتعاطف معنا بشر.. وستظل حوادث الميكروباصات تقع، ومشجعو المباريات يتعاركون، وأطباء الأسنان يتزوجون...!!!!
* * * * *
لكن.. أليس هناك باب خلفي يمكن الهروب عبره من تلك المعمعة؟!!!
طبعا يوجد.. فكما قلتُ سابقا: ولماذا خُلقت كليات التجارة إن لم تكن للفارين من علوم؟!!!
الآن.. لك أن تفهم سبب هذا التجمع المخيف الذي يتكون في الأسبوع الأول أمام مكتب الموظفة المسئولة عن طلبات النقل، والذي من أجله تكاد الموظفة تلطم على وجهها من هذا الكم من العمل وهي تصرخ في هستيريا: "نهار أبيض.. هو انتو ماكنتوش عارفين إنتو داخلين كلية إيه"؟!!!! (رأيت رد فعلها هذا بنفسي!!!)..
لكن من حقك أن تسألني: ولماذا لم تقم أنتَ أيضا بالتحويل طالما الحل بهذه السهولة؟!
السبب هو أنني رفضتُ أن أكونَ مجرد رقم..!
نعم.. فبعد وقوفي في الطابور الطويل بضع دقائق رأيت مستقبلي بعد التحويل.. وساءني للغاية أن يقال عني: ها هو (طالب آخر) يفر من علوم.. لدينا الكثير من هؤلاء على كل حال!!!
وأنا - دعني أصارحك - أكره بشدة أن أكون مجرد (طالب آخر).. أن أكون رمزا مجهولا غير فاعلٍ في المعادلة..!!! فضلا عن مشاهدتي لمن كان أقل مني بكثير في المستوى الدراسي أيام المدرسة، وقد التحق معي بكلية العلوم، ولكنه لم يشكو، ولم يحاول الفرار...!!
قد يكون في هذا التصور نوع من الغرور وشيء من التعالي.. ربما.. لكن هكذا كان تفكيري.. وهذه كانت قناعاتي..!
وقررتُ أن أخوض التجربة ببعض الصبر.. فبالتأكيد - هذا ما أهتديتُ إليه - لستُ بدعا من آلاف الطلاب الذين يملؤون ردهات الكلية وقد تخطو أيام الشقاء الأولى..
وبالتأكيد ليسوا جميعا أعلى كفاءة مني أو أكثر ذكاء أو أغزر إمكانياتٍ.. إذن فتخطي الأمر ممكن.. وفي النهاية فكلية التجارة باقية ولن تذهب إلى مكان آخر...!!(1)
بالطبع لا أعني هنا الانتقاص من قدر كل شخص قام بالتحويل من الكلية، فربما كان البعض قد عرف قدراته جيدا وقيمها مبكرا.. لكن كما أسلفت: هذه قناعاتي التي حكمتني.. وهذه تجربتي الشخصية.
وقد عرفتُ مَنْ ترك كلية العلوم (العلمية) - بعد عامين - إلى كلية دار العلوم (الأدبية) لأنه يحب اللغة العربية ويشعر أن دراستها هي الأنسب له، وبالفعل تفوق هناك وصار من الأوائل بعد أن كان هنا من الراسبين!!!
الأمر إذن نسبي، ورغم أن كلا منا يمكنه استشارة الآخرين في تحديد مسار حياته.. لكن تبقى الحقيقة الأكيدة: أنه هو الوحيد المعني باتخاذ القرار والقادر على ذلك.. وهو الوحيد - أيضا - الذي عليه تحمل تبعات هذا القرار دون لوم أحدٍ ممن استشارهم!!
* * * * *
في نفس هذا الوقت كان طلاب قسمي يتعرضون لصدمة أخرى من نوع خاص.. كانت كفيلة بجعل الكثيرين يفكرون في ترك الكلية من جديد..!!
والقصة أن قسم (الأحياء Biology) يتفرع بدءا من السنة الثالثة إلى أربعة أقسام فرعية: علم النبات - علم الحشرات - علم الحيوان - علم التشريح والفسيولوجيا (وظائف الأعضاء).
ونظام الكلية يسمح لطلاب الفرع الأخير بالالتحاق بكلية الطب البشري بعد الانتهاء من العلوم (لتطابق مواد هذا الفرع مع المواد التي يدرسها طلاب السنتين الأولى والثانية في كلية الطب)؛ لذا كان خريج هذا الفرع يلتحق بالسنة الثالثة من الطب مباشرة.
هكذا كان قانون الكلية منذ نشأتها قبل 50 عاما تقريبا (وقت التحاقنا).. لكن هذا القانون سقط في سنة واحدة فقط.. تلك التي التحقتُ فيها بالكلية!!!!!!!
لماذا؟ لأن عميد الكلية كان مستاء من أن تكون كلية العلوم مجرد معبر لبعض الطلاب الذين يرغبون في دراسة الطب ولم يؤهلهم مجموعهم في الثانوية العامة لذلك!!!(2)
وضاعت الفرصة على الكثيرين.. لكني - صدقا - لم أكن منهم.. لأنني لم أحب يوما دراسة الطب.. لم أتقبل نفسيا أبدا - وما زلت - أن يكون الجسد البشري هو مسرح دراستي...وأن أعبث فيه بمبضع تشريح أو إبرة خياطة!!! فضلا عن حبي الحقيقي لدراسة علم الحيوان.. وهو ما ذكرته في مقدمة هذه المذكرات..!
لذا لم تشغلني هذه الصدمة التي شغلت الآخرين الذين بقي معظمهم في الكلية أملا في تغير القانون.. لكن السنة الأولى مرت دون أن يتغير القانون..
لكن صدمتهم الحقيقية كانت في السنة التالية عندما عاد القانون للتطبيق من جديد ليستمر بعد ذلك (دون أن يسري على دفعتنا!).. فقط لأن الدفعة التالية لنا كان بها عدد لا بأس به من أبناء أساتذة في كلية الطب!!!!!!!
* * * * *
الآن انتهت الصدمات.. وزالت العقبة الكؤود.. صارت الألفاظ العلمية اللاتينية مألوفة لأذني.. لا ألقى جهدا في فهمها من الدكاترة، والأدهى أنني صرت قادرا على الكتابة سريعا خلفهم بالإنجليزية الممزوجة باللاتينية..
لكن لماذا تعتقد أن الحياة في كلية العلوم صارت أكثر سلاسة وأرقى بهجةً...؟ من الساذج الذي صور لك هذا؟ أنــــا؟!
إذن عليك أن تقرأ الحلقة التالية: Run.. Lola.. Run ..!
فإلى لقاء قريب بإذن الله.
______________
(1) تساءل بعض القراء المرة السابقة: لماذا (تجارة) وليس (زراعة) مثلا.. والسبب - في رأيي - أن كلية الزراعة لا تختلف كثيرا عن كلية العلوم في مشقتها الأولى ولا في مجال دراستها العلمي، وغالب من يحولون مسارهم عن (علوم) إنما يفرون أساسا من هذين الأمرين..!
(2) طبعا لم تكن الجامعات الخاصة قد ظهرت للوجود!!