معشوقتي الدائمة..!
(الجزء الثاني)
___________________________________
.......... التحديث في نهاية الموضوع ...........
___________________________________
إذن هل التحديات العديدة التي تواجهها (اللغة العربية) تمثل خطرا حقيقيا عليها للدرجة التي تمثل تهديدا بالانقراض كما يزعم بعض الباحثين؟؟!!!!
قبل أن أطرح الرد من وجهة نظري.. فلنتعرف أولا - في لمحة شبه سريعة - على أهم تلك التحديات المزعومة...
* * * * *
(1) العامية مقابل الفصحى
يعتقد بعض المتابعين أن أهم المخاطر التي تواجه (اللغة العربية) هو إغراقنا في التحدث بالعامية، فضلا عن تطعيم تلك العامية بكلمات أعجمية (إنجليزية، وفرنسية في الغالب)..
أنا صراحة أرى أنه لا مشكلة من استخدام العامية.. فهذه طبيعة الأمور.. والألسن تميل إلى ذلك في كل مكان.. بل كان هناك لهجات متنوعة للعربية الفصحى نفسها وقت سيادتها على ألسنة أهل الجزيرة، والتشريع الإسلامي - الذي لم يأتِ لمصادمة الطبائع البشرية - اعترف بهذه اللهجات، لدرجة أنْ تَـنَـزَّل القرآن على لسان جبريل - عليه السلام - بأشهر سبع لهجات عند العرب(1).
أما عن استخدام الكلمات الإعجمية خلال الحديث.. فأرى - مع ما قد يظهره البعض من دهشة - أن السطور السابقة تنطبق عليها؛ ولا أرفضها إلا في حالتين:
1- أن يكون مقصد المتحدث بالكلمات الأعجمية هو التباهي على من لا يفهم كلماته من الحضور.
2- أن تُضيع كلماته الأعجمية أجرا بإزاحتها ألفاظا شرعية مقابلة؛ كاستبدال (جزاك الله خيرا) للشكر بـ(ميرسي)(2).. أو استبدال (سبحان الله!) للدهشة بـ(واااااو).. أو استبدال (السلام عليكم) للتحية بـ(هاي).. هكذا..!(3)
* * * * *
أو قاموس (الرَّوْشَنة).. وهو قاموس بالمعنى الحرفي لا المجازي.. جمع فيه المؤلف (ياسر حماية) تلك الألفاظ التي انتشرت بشكل خاص بين الشباب منذ عقد التسعينات من القرن المنصرم، وهي ألفاظ ذات دلالات كان لا يفهمها إلا تلك الفئة في البداية نظرا لانتشار الفساد الصارخ وانفصال شريحة ضخمة من الشباب عن واقع وطنها يائسة من إيجاد دور لها في تغيير منشود.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لانفصال هذا الشباب عن الأجيال الأكبر سنا التي انشغلت بتحصيل لقمة العيش وعدم تفرغها لمجرد التعرف على مشاكل أولئك الشباب فضلا عن فهمها!!.. ثم لم تلبث تلك الألفاظ (الرِّوشة) - غالبا بتأثير الدراما - أن فرضت نفسها فرضا على بقية المجتمع تقبلا ومن ثم استخداما..!!
ورأيي هنا تجاه هذه الألفاظ لا يختلف كثيرا عن رأيي في استخدام العامية، لأن طفو هذه الألفاظ على السطح وسيطرتها على الألسنة لا يجعلها في صراع أو مواجهة مع العربية الفصحى بقدر كونها - في حقيقة الأمر - في مواجهة مع العامية(4).. ودعنا نتفق مبدئيا على أن تلك الألفاظ (الروشة) لا تخالف أمرا شرعيا.. إذن الحديث عنها سيرتبط بالعرف.. وهنا اسمح لي أن أقول - وأرجو ألا أصدمك -: إذا كانت ستؤدي ما تؤديه العامية وارتضاها عرف المجتمع، فما المانع من استخدامها؟! خاصة أن مجال التوسعة والتضييق في استخدامها يدركه كل أحد، ويعرف كل شاب متى - ومع من - يصبغ كلامه كاملا بتلك الألفاظ، ومتى - ومع من - يكتفي بتطعيمه بها، ومتى - ومع من - يخفيها تماما من حديثه..!
ولا ننسى - في هذا السياق - أنه في يوم ما كانت كلمتا (كَبَّر) و(طَنِّش) - اللتان هما دلالة على تجاهل أمر ما وعدم الوقوف عنده طويلا - تمثلان لدى الكثيرين خطرا على العامية فضلا عن تمثيلهما لمستوى منخفض ثقافيا في المجتمع.. ولم تلبثا أن صارتا من لب العامية المصرية دون أن تثيرا أدنى استنكار أو استهجان لدى المجتمع..!!!!
إذن شخصيا ليس لي تحفظ على استخدام قاموس الروشنة إلا في ثلاثة مواضع:
1- أن يكون اللفظ (الروش) ذا دلالة بذيئة، أي مرادفا لسباب أو شتيمة (وهذا طبيعي حتى في العامية العادية).
2- أن يكون بديلا عن لفظ شرعي؛ كاستبدال (ما شاء الله!) للاستحسان بـ(قشطة).. وهكذا.
3- أن يعطي انطباعا بعدم احترام المخاطب سيما لو كان اللفظ ما زال غير مقبول في مجتمع بعينه أو بيئة بعينها.
* * * * *
(3) في الدعوة والأدب.. الفصحى أم العامية؟
فلنجب - في سبيل ذلك - عن هذا السؤال أولا: ما وظيفة اللغة لدى الدعاة أو الأدباء؟ أليست هي مجرد وسيلة للتواصل مع المستمعين والقراء لكي تصل الرسالة المرجوة؟ إذن فكل ما يسهل هذا التواصل يمكننا استخدامه بكل بساطة.. ودعني أرجع لقاعدتي الأساسية في تقييم الأمور الخلافية.. فطالما أن أسلوب التواصل لن يخالف أمرا شرعيا فلا حرج من استخدامه.. وفي حالتنا هذه يُترك الأمر لكل صاحب رسالة (داعية أو أديب أو إعلامي) أن يستخدم أنسب وسيلة لمخاطبة جمهوره المستهدف.. فهناك جمهور لا يصلح معه إلا الفصحى، وآخر لا يفهم إلا العامية، وكل من الفصحى والعامية لها درجات ومستويات متنوعة يقدرها صاحب الرسالة، وبقدر إدراكه لجمهوره وطبيعة (اللغة) التي يجب مخاطبته بها بقدر ما يكون نجاحه. مع الانتباه إلى استخدام أرقى مفردات في (اللغة) التي سيستخدمها.
ومن الجدير بالذكر أن كل نبي (والأنبياء هم أصحاب أعظم رسالة على وجه الأرض) كان يرسله الله - عز وجل - بـ(لغة قومه)؛ لكي تكون أسهل طريقة للوصول إلى أفهامهم..!
* * * * *
الآن نعود إلى السؤال الأصلي الذي بدأنا به موضوعنا: هل هناك خطر حقيقي يهدد بانقراض (العربية الفصحى)؟
مبدئيا أرى أنه من المشقة بمكان أن أدعو الناس - سيما العوام - للتحدث بالفصحى ولو مرحليا.. لأنني أرى - ببساطة - أن ذلك لن يمثل إلا حرثا في الماء..!
ناهيكَ عن أن التجربة أثبتت فشل المحاولات العديدة لتحبيب الناس في (اللغة العربية) فضلا عن تحدثهم بها..!!!
وهذه ليست إشارة مني لعدم أهمية (العربية) أو دعوة إلى تركها.. كلا كلا.. ولكنني أعتقد أن الحل سيأتي عندما تتحول أنظمتنا التعليمية إلى احترام هويتنا إجمالا، والاهتمام بشكل خاص بتعليم (القرآن الكريم) و(اللغة العربية) وإعطاء كل منهما حقه ومستحقه كباب وطريق إلى استرجاع هويتنا وقيمنا في مقابل الهويات والقيم التي تفرضها علينا (العولمة) بكل أسلحتها الشرسة.. وقتها فقط - تلقائيا وفي سنوات قليلة معدودة وبأقل مجهود ممكن - سيظهر جيل جديد ذو هوية عربية قلبا وقالبا ومحب تلقائيا لكل مفرداتها بما فيها اللغة التي تمثلها.
وصدقوني.. من أسهل الأمور تدريب الألسنة على نطق العربية..
ألا تصدقون؟ حسنا.. فليترك كل منكم ابنه أمام الكرتون الناطق بالفصحى لمدة أسبوع فقط.. ثم ليحاول أن يحدثه بها.. وسينبهر من النتيجة..!!
ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن (اللغة العـبـرية) تم إحياؤها من موات كامل في سنوات قليلة لمجرد أن أهلها احترموا هويتهم واستشعروا أهمية لغتهم في تمييزهم عن بقية الشعوب..!!
أما أن (العربية الفصحى) يهددها خطر الانقراض.. فهو زعم - لو تعلمون - عجيب.. نعم.. كان حريا بهذه اللغة أن تنقرض أو تتبدل كليا كغيرها من اللغات، وهي ليست بدعا منها.. لكنها تتميز عنها بأنها محفوظة من قِبل الله - عز وجل -.. ذلك أن حفظ القرآن الخالد - بوعد ربنا لنا - هو بلا ريب حفظٌ لوعائه الذي هو (العربية). فتجد المتحدث بالعربية الآن يفهم العربية التي سادت منذ أكثر من 1400 عام، على العكس مثلا من متحدثي الفرنسية الذين يستحيل عليهم فهم الفرنسية التي سادت منذ 400 عام فقط...!!!
* * * * *
في الجزء الثالث - بإذن الله - سأقتصر على تقديم هدية لن يقدر أهميتها وجمالها - في ظني - إلا محبي العربية.
دمتم سالمين.
..................................................................
التحديث
كنت أنوي - كما هو واضح - تقديم هديتي في جزء ثالث.. لكني عدلتُ عن ذلك في سبيل جعلها في صفحة خاصة ثابتة يمكن لكل زائر العودة إليها في أي وقت...
أرجو لكل مدون محب للكتابة بالعربية الفصحى أن يستفيد منها أكبر استفادة.. على ألا ينساني من دعائه.
_______________
(1) كان الهدف من هذا في البداية هو سهولة فهم العرب جميعا للقرآن ومن ثم تقبلهم له.. ثم قام الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) - رضي الله عنه - بتحريق كل المصاحف التي كتبت بلهجة غير لهجة قريش لأسباب ليس هذا مجالها.. المهم أن ذلك كان بإجماع من الصحابة في عصره، أي أن هذا الاجتهاد - الـمُجمَع عليه - صار تشريعا في حد ذاته كالقرآن والسنة.. وصارت القراءة المعتمدة لدى المسلمين هي التي بلهجة قريش. وبالمناسبة هذه القراءات غير القراءات السبع أو العشر المشهورة عن الطرق المختلفة لمشاهير القراء.
(2) الصحيح لغويا - على غير الشائع - أن استبدال تعني الجديد لا القديم، كالقول: "استبدل حسين (سيارة جديدة) بـــ(سيارته المعطلة القديمة)".. [لاحظ هنا أن الباء تدخل على الملغي].
(3) لعدم سيطرة اللغة الأجنبية على ألسنة أبنائنا.. أنصح هنا من يفضل مدارس اللغات لأبنائه أن يختار لهم تلك التي تهتم بجدية باللغة العربية والقرآن الكريم (وهي متوافرة بكثر حاليا ولله الحمد).. وإن لم يجد فليحرص على تعليمهم القرآن بأحكام التجويد على يد شيخ متقن؛ فهذا أكبر مقوم وحافظ لألسنة أطفالنا الدارسين في تلك المدارس.
(4) طبعا أقصد هنا العامية المصرية.. ولا أعرف بشكل دقيق إن كانت هناك (قواميس) مشابهة لدى شباب الدول العربية الأخرى أم أن هذه الظاهرة مرتبطة بالبيئة المصرية فقط..!! وإن كانت كذلك فهذا يستدعي بحثا ودراسة من أهل التخصص لتفسير خصوصية هذه الظاهرة لدى الحالة المصرية..!!!!